البريئة عدن

البراءة وجه البدء، وخطى البدايات خطى بريئة، وفي امتداد الخطى بعيداً، تتوارى أنوار البدايات.. فقد توارى نور البدء في الجنة حينما سارت خطى البدء فوق رمال الشيطان المفروشة نحو شجرة الهبوط، أما حينما عصى الشيطان ما أمر به الله الخالق البارئ، فإن عصيانه ولحظة هذا العصيان كان له الأثر الواضح في هد كل الخيالات الممكنة عن حالات خطى البدايات الشيطانية.. ليستقر في ذهن البشر البدء العاصي الخاسيء الذي قدّر الله نهايته منذ أن بدأ، أما قابيل رغم سوءته يبقى من الوجوه الأولى للبدايات، فحين قرر الرحيل والهجرة من أرض السوءة فكأنما قرر البدء الجديد؛ البدء الذي يعنيه تماما ، لكن الروايات تعددت حول الأرض التي أقبل قابيل عليها ليسكن وأهله فيها.
ومن بين الروايات رواية واحدة تعنينا تقول إن عدن كانت مسعى قابيل وقدره..
ميلنا المكين لعدن يكاد يسلم بحقيقه هذه الرواية، ولكن هذا الميل مهما بلغ لهو بحاجه إلى دلالات أخرى تمنحه قوة المجاهرة باعتبار عدن مكان البدء ووجه البراءة.
أعتقد أن السبيل لقوة الدليل قد جاءت في السنة النبوية في حديثين شريفين لخاتم الأنبياء والمرسلين رسول الله محمد الصادق الأمين " صلى الله عليه وسلم" وهما من الأحاديث الصحيحة التي تشير بوضوح تام إلى عدن باعتبارها أرض بدء البدء، وبدء النهاية لأفعال قدر حدوثها بدءاً من عدن، فقد قال رسول الله في أحد الحديثين ( يخرج من عدن أبين أثنا عشر ألفاً ينصرون الله ورسوله هم خير من بيني وبينكم)، هذا الحديث منح عدن مكانة تاريخية تجاوزت من خلاله ما مضى من أحداث.. لتبقى عدن على علاقة متقدمة بالمستقبل.. لذلك لم يخلُ حاضرها من مخاض البدايات الجنينية التي في تراكمها زمنيا ينبثق ميلاد بدء عظيم بشر به رسولنا الكريم فيه نصرة الله ورسوله ابتداءً من عدن. 
وفي الحديث الثاني عن علامات القيامة وقوله "صلى الله عليه وسلم" في أشراط الساعة : (وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن تطرد الناس إلى محاشرهم)، ففي هذا الحديث دلالات عديدة، فأرض عدن قدّر لها أن تشهد بدء النهاية وهي أيضا علامة مكانية من علامات القيامة تمثل النهاية، فإذا كان للمكان حضوره القوي والمكثف في النهاية الكبرى، فإن هذا الأمر ومن سياقه الزمني يمنح القدرة على محاكاة البداية بنظرة لا تخلو ذهنياً من روابط العلاقة بين البدايات والنهايات التي سنها الله في خلقه ومخلوقاته، لنخرج وعلى أساس هذه النظرة بنتيجة يمكن التعاطي معها أكثر من ذي قبل تقول : لابد أن يكون لعدن حضور ممكن في البدايات الأولى يتوافق مع حقيقة علامة النهاية الكبرى :نار تخرج من قعر عدن، ولكن قد يبرز سؤال يقول :
كيف يمكن وصف عدن بالبريئة والنار تخرج من قعرها، نقول : عسى أن يكون الله قدّر لها النار تأكيداً لبراءتها كما قدّر لموسى عليه السلام أن يقبض جمرات النار إعلاناً لبراءته؟
نعم هي البريئة عدن.. والبراءة تشع منها، فإذا خيرت أن أختار وصفاً لعدن من بين أوصاف عديدة لما ترددت في اختيار وصف البريئة، فهي البريئة التي سعى البدء لها من البدء، وهي البريئة التي تتولد منها البدايات الحرة وإن كان بعضها مؤلما.. فعدن الأقدر بسحر براءتها أن تجمع المتألمين في حضن تسامحها وتصالحها لتؤذن ببدء مفصلي جديد نراه جليا يلوح بالأفق.