فلسطين تشتعل..وعمنا "عباس" لازال يهاتف خلف الترباس..!
لا ادري ما الذي ينتظره عمنا "أبومازن" من واشنطن وبقية عواصم الغرب المتعاطفة تاريخيا وبشدة...
في العام 1987م، كنت أعيش في المنفى، في دمشق.
المدينة كانت مزدحمة بالحكايات والمنافي والغرباء، وكنت واحدًا منهم.
في تلك الأيام، كنت ما أزال أتعلم كيف أتنفّس بعد الفقد الكبير، فقدت والدي وعددًا من أسرتي في كارثة لم تترك في داخلي سوى رماد الحزن.
ذات صباح، أخبرني أحد الأصدقاء أن هناك من يبحث عني، يريد مقابلتي “للأهمية”.
لم أستغرب، لكن شيئًا في داخلي ارتجف.
بعد قليل، علمت أن الرجل هو العم نصر شايف رحمه الله، وكان حينها مستشارًا أمنيًا، ضابط ارتباط في سفارتنا بدمشق.
عرفته منذ وقت مبكر في صباي, وظليت أراه في مناسبات عديدة لانه كان من الشخصيات وثيقة الارتباط والموثوقية بعمل والدي, ولعل المقام غير مناسب لذكرها الان ,لكني اتذكر بأن اطرفها كانت عندما جاء لمنزلنا ليلا وسلمته اشياء غريبة تتعلق بالعمل بحسب طلب الوالد...واستغرب لذلك وقال لي : هل يدربك والدك منذ الآن ام ماذا؟ فقلت له لا...هو يريدني أن أكون طيارا مدنيا ! فنظر إلي متأملا ثم ضحك,وأخذ تلك الاشياء الغريبة و ودعني وغادر رحمه الله .
كان أبى نادر من أولئك الرجال الذين إذا التقيتهم، شعرت كأنك تقابل قلبًا يعرفك منذ زمن.
كان والدي رحمه الله يرأس نخبة قيادية من ضباط الاستخبارات الخارجية ذوي مهارات وصولات وجولات، وكان العم نصر أحدهم،
كنت متعلقا بوالدي وشغوفا بغموضه, واحاول كثيرًا مرافقته كلما استطعت لذلك سبيلا، أستمع بصمت، وأتعلم منه كيف يكون المرء صلبًا دون قسوة، وكيف يحيا بين الناس بلا خوف..و رأيت بعيون كانت لازالت حينها ترى بوضوح دون تشويش, كيف يتصرف هؤلاء الناس وكأنهم يعلمون سلفا بانهم يعملون في بحر الغموض الذي سيظل يكتنف حياتهم حتى بعد مماتهم, يعملون كاسرة واحدة تعلم مسبقا أنها مهما سطرت من ملاحم أو تضحيات,لن يتكلم عنها أحد و ربما لن يتجرأ على ذلك خوفا على رأسه, وستنسب احداث هامة وفاصلة و وقائع ربما تاريخية لغيرهم من خارج الصندوق, وسيدفن ذلك التاريخ مهما كانت أهميته وتأثيره أو على الأقل سيدفن معظمه مع رحيل أفرادها.
كانت تلك الكوكبة من الرجال رغم أنها قيادات في المجال تنظر حينها إلى والدي كالأب أو الأخ الأكبر، والمعلم الاخبر في حياة مهنتهم القاسية, والذي يقود تلك الاسرة المغامرة في رحلتها المحفوفة بالمخاطر، وظل هذا التقليد الغير مرئي يتبعه كثيرون, حيث اعتبرت انا مثلا في مراحل لاحقة ولا زلت كل من تبقى منهم على قيد الحياة في عالمنا هذا آباء وأستاذة كامتداد لتلك الروح...روح الفريق الواحد والأسرة الواحدة والتي كانت متجسدة سلوكا وليس قولا فقط,هذه الروح التي 
ظليت أرى أثرها فيهم بعد رحيل والدي الصادم طيلة سنوات, حين التقيت بعضهم في محطات متفرقة ولا زلت، حيث كانوا يذكرونه كما يُذكر الطيبون, : بابتسامةٍ مبللةٍ بالحزن.
رأيت ذلك في عيون من عملوا معه ومنهم العم نصر الذي اذكره الان بنفس الذكر الطيب والعيون المبللة, وكذا عدد كبير من الدبلوماسيين، والعسكريين والامنيين ، والمبتعثين، وحتى قادة الجاليات في الخارج و رجال الأعمال الذين كانوا يربطهم به خيط من الوفاء.
العم نصر كان أحد هؤلاء الفرسان الذين ظلوا أوفياء، لا تغيّرهم المناصب، ولا تشتريهم الأيام.
وحين طلب لقائي، لم أستطع أن أرفض، رغم أنني كنت منكفئًا على نفسي، أعيش عزلةً ثقيلةً بعد الفاجعة.
جلسنا في مقهى صغير بدمشق، وكان يحمل في ملامحه دفئًا لم يتغير.
بعد التحية والسؤال، قال لي بهدوءٍ يملؤه الجدّ:
“معي رسالة مهمة لك من عمك سعيد صالح سالم، الذي شغل حينها منصب وزير أمن الدولة.
يقول لك: الوطن يحتاجك,عليك العودة إلى عدن و سيُصدر قرارا فوريا بتعيينك ضابطًا في الجهاز ويقصد جهاز أمن الدولة ، وتُبتعث مباشرة دون تاخير إلى إحدى دول أوروبا الشرقية بمنحة حكومية لحساب الوزارة لتتأهل سريعا وتعود, ومن خلالك ربما نعوض عن فقدان تلك الشجرة الكبيرة التي نفتقدها فرعا أصيلا .
واستدرك رحمه الله قائلا كما سيكون لك مزايا جيدة, و ستُعاد للأسرة بعدن كذلك بعض المزايا والأمور الأخرى التي توقفت بعد الفاجعة .”
ثم أضاف: “العم سعيد يقود جهودًا حقيقية لوقف العبث و جبر الضرر وإعادة وصل ما قطع, و هو يعرف قيمة والدك، ويقدّر ما قدمه للوطن ويعلم مدى الخسارة برحيله, يريد الرجل أن ينقذ ما يمكن, ويعلم هول الكارثة التي حلت بنا وبالبلد وعلينا أن نساعده في هذا ”..
كنت أعلم أن العم نصر من القلائل الذين آنذاك لعبوا دور الاطفائيون في اخماد الحريق الهائل الذي أطاح بالبلاد, وقاموا بجهود رجولية ومسؤولة في محاولات لتأمين حياة بعض الناس, وأنقاذ آخرين من التصفيات الجنونية لداحس والغبراء التي كانت تحدث وقتئذ , وان الوزير بنفسه كان يشجعه وآخرين على ذلك ويقف على رأس اولئك الاطفائيون ..
كنت أستمع لما يقوله لي ابو نادر أثناء اللقاء، لكن شيئًا في داخلي لم يتحرك..
كان الحزن أكبر من أي قرار..
و كل ما فيّ كان مثقلاً بالوجع، لا يقوى على الخطوة الأولى نحو العودة...و أذكر أني شكرته بلطف,وسألته أن يوصل تحياتي للعم سعيد ثم اعتذرت وغادرت ، ربما لأن الحزن كان يمنعني من التصالح مع أي شيء في تلك اللحظة حتى مع نفسي ,والحقيقة أن العلاقة مع العم سعيد صالح سالم رحمه الله لم تتوقف هنا, وعادت في محطة أخرى لاحقة، وكان أبو نادر طرفا فيها مرة أخرى, ربما تاتي مناسبة اخرى لذكر تفاصيلها .
مرّت السنوات، وعدت إلى عدن.
وكان العم نصر من أوائل من استقبلوني، وكذلك العم محمد عبدالرب لحسون الذي كان دائم الاتصال معي..وقد علما باني صرت ضابطا بالمنظومة, ولهذا أصدرا توجيهات بتأمين حمايتي الشخصية وتعميم رقم سيارتي لهذا الغرض، وكان ابو نادر وبما يحمله من مشاعر إنسانية نبيلة وروح خيرة يتابعني عن قرب كأبٍ يخاف على ابنه, ويسالني دوما عما إذا كان هناك مضايقات أو شي ينقصني, وظل بابه مفتوحا لي, وفي كل لقاء معه اشعر دوما بأنه يريدني أن افهم بأن الأمور تغيرت ولم تعد سيئة وأنه وآخرين يحبوننا موجودين إلى جانبنا, وان الناس صحيت ولو بعد فوات الاوان ..!
وحين اندلعت حرب 1994، عدت لأراه من جديد، بنفس الحضور الإنساني النبيل كأب واخ اكبر وصديق وقائد كذلك, حيث كان يشرف عني بطريقة أو بأخرى حينها كضابط قيادي أعلى وبنفس تلك الروح التي أشرت لها آنفا, وكان يسأل عني دائمًا، بصوته الهادئ والجاد وحرصه الذي لا يتغير ,حيث جمعتنا بعض ذكريات تلك الحرب المشؤومة هي الأخرى , وفي مرة من المرات استغرقنا بالضحك طويلا بعد ان قلت له مازحا ما هذا؟ ماهذا النصيب؟ الا تزيد قربنا وجمعتنا سوى الكوراث؟!
ذلك الرجل في الحقيقة لم يكن مجرد مسؤول أو صديق لوالدي ممن عملوا معه في مجال حساس للغاية, فأبو نادر كان فعلا نادرا, فكان من أولئك القلائل الذين لا تنسيهم الدنيا وجوه من أحبوا، ولا تشتريهم المناصب أو المكاسب..و لا تغيرهم الدنيا وملاهيها أو خطوبها, رجالٌا يحتفظون من الماضي التليد بما يكفي من النقاء ليضيئوا حاضرًا مظلمًا, فمثله من الذين يجبرونك أن تصدّق أن الخير، مهما تراجع، لا يموت..ولم نعد نجد أمثالهم في زماننا هذا..ربما لم يعودوا يظهروا كما في السابق, أو دفنهم هذا الزمان الهزلي بسخافاته وتفاهاته .
ان محاولة احياء ذكرى الفقيد و أمثاله من ذلك الجيلٍ النادر، الذي لا يصنعه سوى الوفاء يجعلنا بلا شك في خضم نوستالجيا لا تنتهي, وحين أفتقده اليوم، لا أفتقد شخصًا فقط، بل أفتقد زمنًا كانت فيه القلوب أنقى، والكلمات أوفى، والافعال ارقى واقوى والرجال بحق رجالا..
رحم الله أبى نادر ورحم زمانه النادر .
*نجل الشهيد علوي حسين فرحان 
أحد قيادات ثورة الرابع عشر من أكتوبر وقطاعها الفدائي..نائب وزير أمن الدولة و رئيس جهاز المخابرات الخارجية بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقا .