عودة البريد ضرورة.. فهل تتحرك الدولة؟

في خضم التحديات الاقتصادية والنقدية التي تعصف بالبلاد، وتحت وطأة الفوضى المتزايدة في آليات صرف الرواتب، بات من الملح إعادة الهيئة العامة للبريد إلى قلب المنظومة المالية، لا كخيار إداري مرن، بل كضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل، وركيزة أساسية لضبط حركة السيولة وإنقاذ الاقتصاد من الانهيار المنهجي.

          فوضى الصرف النقدي

منذ أن تم تعليق دور الهيئة العامة للبريد في صرف رواتب موظفي الدولة، وتسليم هذا الملف الحيوي للبنوك التجارية والشركات المالية الخاصة، دخلت البلاد في دوامة من الفوضى النقدية وغياب العدالة في توزيع الأجور، وارتفعت كلفة الخدمة بشكل مبالغ فيه، وتآكلت الرواتب بفعل العمولات والرسوم الجائرة، كما تراجعت قدرة الدولة على ضبط السوق المالية، وخرجت السيولة النقدية عن نطاق الرقابة الرسمية، لتتحول إلى أداة مضاربة تهدد استقرار العملة الوطنية.

           غياب الرقابة الرسمية

كان خروج الهيئة العامة للبريد من مشهد صرف الرواتب إيذانًا ببدء مرحلة من الانفلات المالي، حيث احتكرت الشركات الخاصة هذه المهمة، ففرضت رسومًا باهظة، وخلقت بيئة مالية يغيب عنها الإشراف الحكومي، ويتحكم فيها منطق الربح لا مصلحة المواطن، وهذا الواقع لم يؤدِ فقط إلى إفقار الموظف، بل أضعف سيادة الدولة على واحد من أهم مفاصل الاقتصاد.

        استعادة الدور المالي

الهيئة العامة للبريد ليست مجرد مؤسسة خدمية، بل هي إحدى أدوات السيادة الوطنية، وذراع الدولة التنفيذي لضمان الشفافية والعدالة المالية، وإعادة تفعيلها كمصرف وطني لصرف الرواتب يسهم في إحكام الرقابة على تدفق السيولة، وتوجيهها نحو القنوات الرسمية، والحد من تسربها إلى السوق السوداء، كما يعيد التوازن إلى السياسة النقدية، ويكبح المضاربات التي تهدد استقرار سعر الصرف.

          عدالة الصرف المباشر

اعتماد الهيئة العامة للبريد كجهة صرف رئيسية يضمن وصول الراتب كاملًا إلى الموظف، بعيدًا عن الاستقطاعات المجحفة، ودون خضوع لمزاجية الشركات أو تلاعب السوق، ووجود آليات رقابية صارمة على الهيئة يجعل من الصعب تمرير أي ممارسات فساد أو تسريبات نقدية، كما أن الانتشار الواسع لمكاتب البريد في مختلف المديريات والمحافظات المحررة، يعزز من فرص الوصول السلس والعادل للرواتب والخدمات المصرفية، ويحيي مؤسسة وطنية عريقة كانت حاضنة للخدمة العامة.

         نتائج الاعتماد الخاطئ

ما لم يتم تدارك الأمر، فإن استمرار الدولة في الاعتماد على البنوك والشركات الخاصة لصرف الرواتب يعني استمرار تدفق السيولة إلى السوق غير الرسمي، بما يؤدي إلى تصاعد المضاربات، وتآكل قيمة العملة، وزيادة الأعباء على الموظفين الذين يُستنزفون تحت مسميات العمولات والخدمات، بنسبة قد تصل إلى 20% من إجمالي الراتب.

         تفعيل عاجل للبريد

المرحلة تقتضي الإسراع في إصدار قرار حكومي ملزم يقضي بإعادة ملف صرف الرواتب إلى الهيئة العامة للبريد، وتمكينها من أدوات تكنولوجية حديثة لضمان الكفاءة والأمان، مع تشكيل لجنة رقابية عليا من وزارة المالية والبنك المركزي وهيئة البريد، تتولى الإشراف الكامل على العملية، وتضمن الشفافية والعدالة، وتمنح الهيئة صلاحيات تقديم خدمات مالية رقمية تنافسية.

               قرار وطني ملح

إن استعادة الهيئة العامة للبريد لدورها المالي، لا يجب أن يُنظر إليه كمجرد إصلاح إداري، بل كقرار وطني يحمل بعدًا سياديًا واقتصاديًا وأخلاقيًا، إنه خطوة تعني استعادة الدولة لهيبتها، وقطع الطريق على تغول رأس المال الخاص في مفاصل الخدمات العامة، ووضع مصلحة المواطن فوق اعتبارات الربح والاستثمار، وتأمين راتبه الشهري من عبث السوق، وبرأيي، فإن الضرورة تفرض على الحكومة أن تعيد للبريد اعتباره، وللدولة سيادتها، وللمواطن كرامته.