باب المندب والمخا معركة صامتة بعيدة عن الأضواء فما الذي يحدث؟

اختفاء طارق صالح  عن المشهد خلال لحظة مفصلية، وتزامن ذلك مع تنقلاته المتكررة إلى الإمارات، لا يبدو طبيعيا، بل مؤشرًعلى أدوار تُدار خارج دائرة الضوء. هذا الغياب اللافت جاء متزامنًا مع تطورات حضرموت والمهرة، وهذا يجعلنا نتساءل حول مايجري في سواحل البحر الأحمر والمخا  وباب المندب  تحديدًا، حيث تتركز القوى الأكثر ارتباطًا بحسابات الأمن البحري الإقليمي والدولي.

الصحافة الإسرائيلية ومراكز الأبحاث القريبة من دوائر القرار في تل أبيب تعاملت مع الساحل الغربي والمخا وباب المندب باعتبارها قلب المعركة الحقيقية، وليست  امتداداثانويًا للصراع اليمني. وفي هذا السياق، لا يُنظر إلى القوى المسيطرة هناك بوصفها فاعلًا محليًا فقط، بل كجزء من منظومة أمنية أوسع تهدف إلى منح إسرائيل جائزة كبرى في المنطقة والمبرر الجديد حاليا أبغا الحوثيين عن واحد من أخطر الممرات الملاحية في العالم. ومن هذا المنظور، تبدو تحركات طارق صالح، أو غيابه المقصود، جزءًا من ترتيبات تتجاوز الداخل اليمني، وتخضع لحسابات إقليمية باعتباره حارس تلك المنطقة لا أكثر لحساب إسرائيل والإمارات .

الدور الإماراتي في اليمن لاعلاقة له بشعارات التحالف الذي أطلقته السعودية من اول يوم   كداعم للاستقرار أو جزءً من تسوية سياسية بل   إنهاتسعى إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية عبر تفكيك الدولة إلى كيانات أصغر، يسهل التحكم بها، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا.
كما فعلت في الصومال، عبر دعم كيانات منفصلة ، بعيدًا عن مشروع الدولة المركزية، بما يتيح التحكم بالموانئ والممرات البحرية، وخلق شبكات نفوذ مستقلة عن الحكومات الشرعية. واليوم، يتكرر المشهد في اليمن، شمالًا وجنوبًا، عبر رعاية سلطات محلية وقوى مسلحة تتجاوز الدولة، وتعمل خارج إطارها الدستوري.

في الجنوب، يتجلى هذا التوجه بدعم مشروع الانفصال، ليس باعتباره حلًا سياسيًا للقضية الجنوبية، بل كأداة لإقامة كيان وظيفي موالٍ، يسيطر على السواحل والموانئ والجزر الاستراتيجية. وفي الشمال، يظهر السعي ذاته عبر تفتيت مراكز القوة، وإعادة ترتيب مسارح النفوذ بما يمنع قيام دولة يمنية موحدة وقادرة وطارق صالح يمثل هذا الكيان الوظيفي.

الهدف في الحالتين واحد: تحويل اليمن إلى فسيفساء من الكيانات الهشة، تُدار كل منها بعلاقات مباشرة مع أبوظبي، بما يخدم مشروعها الاقتصادي والأمني في البحر الأحمر وبحر العرب، ويتقاطع بوضوح مع المصالح الإسرائيلية في تأمين الملاحة، والتحكم بالممرات الاستراتيجية.
هنا يأتي دور  طارق صالح مثالًا على ذلك، حيث يُستخدم كواجهة محلية لإدارة نفوذ إماراتي  إسرائيلي في الساحل الغربي.

في المقابل، يطرح ما جرى في حضرموت والمهرة سؤالًا جوهريًا: هل نحن أمام جوهر الصراع، أم أمام مسرح موازٍ يشغل الداخل والإقليم عن معركة تُدار في مكان آخر؟ 
لا شك أن حضرموت والمهرة تمثلان عمقًا جغرافيًا ونفطيًا وسياسيًا بالغ الأهمية وخاصة للملكة العربية السعودية، وأن السيطرة عليهما تحمل دلالات خطيرة، لكن توقيت التصعيد، وسرعة انتقاله من حدث محلي إلى أزمة سياسية، يفتحان الباب أمام قراءة ترى في هذا التصعيد نوعًا من المشاغلة، أو على الأقل ساحة جانبية، مقابل هدوء لافت في الملفات المرتبطة بالساحل الغربي وباب المندب.
في الحسابات الإسرائيلية، باب المندب ليس مجرد مضيق، بل عقدة استراتيجية تمر عبرها التجارة العالمية، وإمدادات الطاقة، وأمن الملاحة في البحر الأحمر وصولًا إلى قناة السويس. لهذا السبب، ركزت تحليلات إسرائيلية متعددة على الجزر اليمنية، وخصوصًا جزيرة ميّون، باعتبارها نقطة تحكم حاسمة، وعلى المخا والساحل الغربي كحزام أمني يجب ألا يقع تحت سيطرة الحوثيين.
اللافت أن هذه التحليلات نادرًا ما تتحدث عن وجود إسرائيلي مباشر مع ان الحقيقة تقول أن الإسرائيليين شاركوا أكثر من مرة في غرفة عمليات مشتركة بين الإمارات وإسرائيل وطارق صالح ..

من هذا المنظور، لا تبدو السيطرة على حضرموت والمهرة وحدها هي الجائزة الكبرى، بل السيطرة على الممرات البحرية والجزر والسواحل التي تتيح مراقبة باب المندب والتحكم به. وهنا، يصبح الساحل الغربي والمخا وميّون أكثر أهمية من محافظات الداخل، لأن النفوذ هناك يُقاس بالتأثير العالمي، لا بالشرعية المحلية أو التوازنات القبلية.

ما تكشفه هذه القراءة أن اليمن بات يُدار على مستويين متوازيين: مستوى داخلي تُخاض فيه الصراعات السياسية والإدارية، وتُتبادل فيه البيانات والتصريحات، ومستوى آخر أكثر خطورة يُدار بصمت في البحر والسواحل، حيث تُرسم خرائط النفوذ الحقيقي. وفي هذا المستوى الثاني، تتقاطع مصالح الإمارات وإسرائيل وقوى دولية أخرى، بعيدًا عن الخطاب العلني، وبمنطق أمني بحت 
ولذلك لا يمكن فصل الاعتراف الإسرائيلي بجمهورية أرض الصومال في هذا التوقيت عن السياق الأوسع لهذا المشروع. فالخطوة الإسرائيلية لا تبدو قرارًا 
معزولًا، بقدر ما تمثل حلقة متقدمة في مسار إعادة تشكيل المنطقة عبر كيانات أمر واقع، تُدار خارج إطار الدول المركزية، وتُربط مباشرة بشبكات أمنية واقتصادية إقليمي.
فما يحتاجه هذا المشروع ليس دولًا قوية تحتكم إلى الدساتير والقوانين والمؤسسات، بل كيانات هشّة تُدار بمنطق الأمر الواقع، وقوى محلية وظيفية قادرة على تمرير هذه الترتيبات دون مساءلة قانونية أو رقابة وطنية
لذلك يبدو غياب طارق صالح عن المشهد، وتزامن ذلك مع تصعيد حضرموت والمهرةومع هدوء نسبي في ملفات باب المندب، جزءًامن لوحة أكبر، لا مجرد مصادفة. فبينما ينشغل الداخل بما يجري شرقًا، تُدار في الغرب معركة مختلفة، معركة تتعلق بمن يملك مفاتيح الملاحة والأمن في واحد من أهم الممرات البحرية في العالم.
المعركة التي تُدار بعيدًا عن الإعلام، في باب المندب والمخا والجزر، هي التي ستحدد في النهاية شكل النفوذ في اليمن والمنطقة، 
جميع هذه الملفات مترابطة ومتداخلة، ولا يمكن التعامل مع أي منها بمعزل عن الآخر. وما لم يتم حسمها، سياسيًا أو بوسائل أخرى، فإن مآلاتها ستفضي حتمًا إلى تغيّر عميق في شكل المنطقة وتوازناتها، ليس في اليمن وحده، بل على مستوى الإقليم بأكمله.

مقالات الكاتب

الأخدام في اليمن

 حوار نعمان الحذيفي عن المهمشين في اليمن مع أسامة عادل في اليمن بودكاست حوار عميق مهم إذ قدم شر...

الأخدام في اليمن

السبت - 11 مايو 2024 - الساعة 09:03 صبقلم: احمد الشلفي- ارشيف الكاتبحوار نعمان الحذيفي عن المهمشين ف...