"أسبرطة" يمنية في الساحل الغربي

 قادتني زيارة اخيرة الى الساحل اليمني الغربي، الى اكتشاف دولة أخرى داخل الدولة… كيان له ملامح "إمارة" أشبه بجمهورية موز، ولكن بطابع عسكري يذكّرنا بـ"أسبرطة" الإغريقية. 

نحن في مدينة المخا، ولكننا أيضًا في منطقة تخضع لحكم مواز يضع اليد على الجغرافيا، والتاريخ، والمستقبل، وجزء غير يسير من التجارة العالمية. ميناء ميت… وخزائن مليئة ما الذي يجري في الساحل الغربي لليمن؟ سؤالٌ طرحته وأنا أراقب ميناء المخا، أحد أقدم موانئ البحر الأحمر، وهو يترنّح تحت وطأة العطالة الرسمية، رغم ضجيج الاعلام المحلي. في الظاهر، الميناء شبه مؤهل لكن في الباطن على ما يبدو ليس لاستقبال السفن التجارية، فهناك شبكة تهريب نشطة تدخل منها البضائع من بوابات غير رسمية، تحت اشراف مباشر من حماة الميناء، وتلك هي وظيفتهم المفضلة على مدى أربعين عاما.

 رأيتُ كيف يتم استيراد المشتقات النفطية عبر أرصفة بديلة، وتخزينها في خزانات ضخمة تدار بأسماء تجارية ظاهرها قانوني، وباطنها يرتبط بأقرباء لقائد القوات هناك. يتم بيع النفط الذي يصل أحيانًا كمساعدات، وتحقيق أرباح بمليارات، كما تدور الشكوك بشأن عمليات تهريب منظمة للغاز الى مناطق الحوثيين المصنفين على قائمة الإرهاب. جيش… وبحرية أيضًا ولأن "أسبرطة" لا تكتمل دون بحر يحرسها، فقد أنشأ حاكم المنطقة طارق صالح وحدة بحرية خاصة به، قيل عندما كنت هناك، انه زار وحداتها المرابطة في جزيرتي حنيش و زقر في البحر الأحمر، متفقدًا جهوزيتها "لتأمين المياه الإقليمية" وهي مهمة سيادية بامتياز كانت حكرًا على الدولة، لكنها الآن باتت في قبضة أحد أعضائها.. ولا يمكن فصل هذه السيطرة البحرية عن الطموح السياسي، او القيام بدور شرطي لمنع هذه الموانيء، والجزر الاستراتيجية من استثمار مقدراتها والانطلاق على سجيتها. إعلام إمارة في ثوب جمهوري وحتى تكتمل الصورة، اطلق قائد قوات المقاومة، من المخا، قناة محلية،

 تتحدث بلغة الدولة لكنها تُكرّس سردية واحدة: أن القيادة هناك هي الخيار المتبقي، والبقية عبءٌ على البلاد. واللافت أن هذه الإمارة الهجينة أصبحت مؤخرًا مقصدا لمثقفين وصحفيين كانوا حتى الأمس القريب في صدارة المدافعين عن مشروع التغيير والدولة المدنية، والعدالة الانتقالية. الآن يلتقطون صورًا تذكارية ويتحدثون كذبا عن نهضة تنموية في مدينة منكوبة كما يقول السكان الاصليون. الفساد… باسم التنمية يسمّونها "صناديق تنمية"، لكنها تشبه خزائن مغلقة بيد القادة العسكريين. من العائدات الجمركية والضرائب غير المحصلة، إلى رسوم الكهرباء، الى كل شيء يُجبى بعيدا عن قيادة السلطة المحلية الموالية للساحل. 

وفي مشهد لا يخلو من البراعة السياسية، أُنشأ الحاكم "خلية إنسانية" تتلقى أموالًا من هذه الصناديق لتحسين صورة الحكم في المحيط المحلي، وصورة براقة تعطي حقيقة واحدة: لا سيادة للدولة هنا، بل "إدارة عسكرية ذات موارد" مما يثير القلق بشأن تأثيرها المستقبلي على امن واستقرار اليمن كما جاء في تقرير لجنة العقوبات التابعة لمجلس الامن. دولة بلا زكاة… ولكن بضرائب ثلاثية مثل صعدة الخاضعة للحوثيين في الشمال، لا يمكنك الدخول الى مدينة المخا دون اذن امني، ولا يمكن للمنظمات الإنسانية المنافسة الوصول الى المجتمعات المحلية، دون تصريح من الجناح السياسي والإداري لقوات المقاومة. وفي انحاء المدينة، وامتداد الطريق جنوبا نحو ذوباب هناك فقط مكلفين بالجبايات. 

قال لي أحد التجار: "ندفع ثلاث مرات: مرة للجهة الرسمية، ومرة للنقطة العسكرية، ومرة للقائد المحلي". كل ذلك في مساحة ضيقة من الأرض، لكن إيراداتها قد تفوق إيرادات محافظة تعز بالكامل. المخا اليوم ليست مجرد مدينة، بل هي اختبار اخر على الضفة الشمالية من المضيق، لقدرة اليمن على أن يكون دولة… لا مجموعة دويلات. 

و"اسبرطة اليمنية" ليست مجرد استعارة، بل مشروعٌ لماض يراد استعادته، وديموغرافيا يراد تغييرها، وقدرات ملاحية يطلب تعطيلها، بينما يستمر الناشطون الليبراليون في الحديث بكل ثقة عن الإنقاذ القادم من مدينة نائمة في الغبار، واعقاب اكياس بلاستيكية في كل مكان.