في ذكرى تحرير عدن..البروفيسور عبدالفتاح السعيدي (حين تشرق الروح من رماد الذاكرة )


في ذلك اليو 27 رمضان 2015 لم تكن عدن  مدينة تتحرر بل روح تبعث من جديد.. قلب ينهض من بين الدمار ليعود ينبض بالحياة وذاكرة نقشتها الأيام بالنار والدموع... يوم تلاقت فيه القلوب قبل أن تلتقي البنادق واحتشدت الأرواح كما لم تفعل من قبل  تحت راية واحدة لأجل مدينة أحبها الجميع حتى الفناء...

هكذا تناثرت الكلمات مشبعة بالصدق وحب الإنتماء لعدن على لسان أشهر بروفيسور جراح في البلاد ويشغل حاليا رئيس الجامعة الألمانية الدولية عدن وكان قبل عشر سنوات من أوائل المشاركين في تحرير عدن ...
لم يكن البروفيسور عبدالفتاح السعيدي فقط طبيبٍ جراح يمسك بالمشرط ليعيد للحياة نبضها بل كان قلبا نابضا بالعطاء فارسا يحمل مشرطه كسيف في ساحة المعركة حيث لم تكن الحرب عنده صراعا بين الرصاص والجدران بل معركة بين الموت والحياة بين اليأس والأمل.

في 27 رمضان 2015 حين كان الليل يترقب ميلاد فجر الحرية لم يكن في غرف العمليات فقط بل كان في الميدان ضماده بقدر بندقيته وروحه ممتلئة بإيمان أن الأرض التي تنزف تحتاج إلى من يوقف نزيفها تماما كما يفعل مع جراح المرضى...
كان يمضي بين الخطوط الأمامية كأنما يضمد جسد عدن بلمسته يرممها بحبه ويعيد إليها الروح كما يعيد الحياة إلى من كادت أن تخطفهم الحرب.

لم يكن طبيبا فحسب بل كان فلسفة متجسدة و حكمة تمشي بين الناس رجلا آمن أن مهنته ليست فقط إنقاذ الأفراد بل إنقاذ وطن وأن الروح حين تكرس نفسها للخير تصبح أعظم من مجرد وجود عابر في الحياة...
حمل عدن في قلبه وفي يديه وفي كل خطوة خطاها حتى صار جزءا منه وصارت هي امتدادا له كأنهما جسد واحد يتعافى معا وينهض معا.....

وهنا أترك للقارئ نص منشور البروفيسور عبدالفتاح السعيدي كما ورد في صفحته على فيسبوك

"يوم تحرير عدن.. 27 رمضان 2015
لن أنساه ما حييت.  
مرر يا سليمان،،،
 الله اكبر الله اكبر عدن تنتصر .

كان آخر يوم لي في غرفة العمليات، حيث التقطت صورة ليدي بعد جهادٍ دام طويلًا مع أكثر من ستة مئة وأربعة وخمسين جريحا. لن أنسى وجوه أبناء عدن وهم يُدافعون عن مدينة الحب والسلام بقلوبٍ لا تعرف الخوف. لن أنسى لحظات البحث عن "قرطاس بسكويت" لنسكت جوعنا، ولن أنسى تركي بيتي يُنهب (إحدى عشرة مرة)  دون اكتراث، لأن آلآم جراح المقاومين كانت أعمق.  

كنا أسرة واحدة، تفتح أبوابها للجميع.
تحولت عدن إلى مدينةٍ كأنها  بيتٍ واحدٍ بلا أبواب!  

أتذكر هذا اليوم بوضوحٍ يقطع القلب، يوم تحرير عدن.. يوم فرحة العمر! بكيتُ من فرط الفرح، واختلطت مشاعري بين الحزن على الفقد والنصر المُكتسَب. كان عيدًا مختلفًا عن كل الأعياد؛ عيدٌ تزامن مع دُعاء المساجد وزهو الانتصار.  

كم أتمنى أن تعود القلوب إلى ما كانت عليه من تراحم، على الأرض وعلى صفحات الفيسبوك. رغم الحصار والجوع والقصف، لم نكن نخشى شيئًا؛ لأننا كنا (قلبًا واحدًا).  

كنا نُفطر ونُسحر على فتات طعام منتهي الصلاحية، لكن سعادتنا كانت لا توصف؛ لأن كل هذا كان من أجل الوطن. كل قذيفة كانت تسقط على عدن تمزق مبانيها، وكأنها تمزق أجزاءً من جسدي. كنا نبتسم لكل من نراه في الشارع؛ فمن بقي في عدن كان مُقاومًا.  

(يوم التحرير لم يكن يومًا عاديًا).. حركت سيارتي متجولًا في المدينة المدمرة، كأنني أتجول في بيتي المحطم. تأملت زوايا الشوارع المهجورة وتساءلت: ماذا فعلت عدن وأهلها لِتُعاقب بهذا الدمار؟  

أتذكر البقالات الفارغة من الطعام، ومحلات الخضار الخاوية، لكننا كنا ممتنين لنعمة البقاء على أرضنا. 
الجرحى من المقاومين كانوا أبناء عدن وكل شبراً من الجنوب.. بسطاءَ حملوا السلاح لأول مرة، يحلمون بمستقبلٍ أجمل.  

في غرفة العمليات، كنتُ أسمع أخبار كل جبهة.. أضحك وأبكي مع كل نصر أو جرح. لا أريد عودة تلك الأيام، لكني أريد عودة تلك المحبة والإخاء  التي جمعتنا تحت الحصار كنا نغفر لبعضنا وكانت عدن همنا الوحيد.  

ويختم البروفيسور عبدالفتاح السعيدي بجملة (
"كنتُ وما زلتُ هنا، حيث قررت أن أعيش، وأتمنى أن أموت.
أ.د. عبدالفتاح السعيدي.
٢٧ رمضان ١٤٤٦ هـ (٢٠٢٥م)  
*كنت ومازلت  هنا... حيث قررت أن أعيش، وأتمنى أن أموت.*"

ونحن نقول هنيئا لك وطنيتك دكتور عبدالفتاح فالتاريخ لا ينسى وقد احتفظت لك صفحاته 
ب654 جراحة وكل جرح كان شاهدا على تضحية وكل قطرة دم كانت عهدا بأن الألم لا يهزم من حمل الوطن في قلبه قبل سلاحه.
وأن عدن كانت في تلك الأيام بيتا بلا أبواب مدينة احتضنت الجميع دون أن تسأل عن الأسماء أو الهويات  لم تكن هناك أسوار تفصل القلوب لم يكن هناك ما يشبه اليوم من انقسامات تهدر طاقة الأرواح في معارك لا ترى...
وأخيرا كأن د. السعيدي أراد أن يقول : 
كم تبدو الذكريات بعيدة لكنها أقرب من أي وقت مضى! 
لا تزال ملامح ذلك اليوم واضحة في القلب لا تزال صور الشوارع الخاوية والبقالات الفارغة والنظرات المترقبة عالقة في الوجدان... كان الجميع يبتسم ليس لأن الحياة كانت سهلة بل لأنهم كانوا على يقين أن الوطن يستحق كل شيء.
اليوم ونحن نقف على الضفة الأخرى من الزمن لا نريد عودة الألم لكننا نتوق إلى عودة المحبة التي جمعتنا ذلك الإيثار الذي محا الفوارق ذلك الشعور العميق بأن عدن ليست  مدينة بل بيت يسكنه الجميع قلب نابض بالدفء حلم لا يموت.

كانت تلك الأيام درسا وكانت عدن الشاهدة والشهيدة لكن الأهم.. هل لا زلنا نحمل في قلوبنا شيئا من تلك الروح؟ أم أن الزمن قد صادر منا ما لم تستطع الحرب أن تنتزعه؟